الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أما النقل فكثير مذكور في كتاب اللغة منها ديوان الأدب وغيره مما يعتبر النقل عنه.وأما الاستعمال فقول القائل:
وعلى هذا فكلمة ثم، معناها ما ذكرنا كأنه قال خلق السموات والأرض، ثم هاهنا ما هو أعظم منه استوى على العرش، فإنه أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض والوجه الثالث: قيل إن المراد الاستقرار وهذا القول ظاهر ولا يفيد أنه في مكان، وذلك لأن الإنسان يقول استقر رأي فلان على الخروج ولا يشك أحد أنه لا يريد أن الرأي في مكان وهو الخروج، لما أن الرأي لا يجوز فيه أن يقال إنه متمكن أو هو مما يدخل في مكان إذا علم هذا فنقول فهم التمكن عند استعمال كلمة الاستقرار مشروط بجواز التمكن، حتى إذا قال قائل استقر زيد على الفلك أو على التخت يفهم منه التمكن وكونه في مكان، وإذا قال قائل استقر الملك على فلان لا يفهم أن الملك في فلان، فقول القائل الله استقر على العرش لا ينبغي أن يفهم كونه في مكان ما لم يعلم أنه مما يجوز عليه أن يكون في مكان أو لا يجوز، فإذن فهم كونه في مكان من هذه اللفظة مشروط بجواز أن يكون في مكان، فجواز كونه في مكان إن استفيد من هذه اللفظة يلزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال، ثم الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون على العرش بمعنى كون العرش مكانًا له وجوه من القرآن أحدها: قوله تعالى: {وَإنَّ الله لَهُوَ الغنى} [الحج: 64] وهذا يقتضي أن يكون غنيًا على الإطلاق، وكل ما هو في مكان فهو في بقائه محتاج إلى مكان، لأن بديهة العقل حاكمة بأن الحيز إن لم يكن لا يكون المتحيز باقيًا، فالمتحيز ينتفي عند انتفاء الحيز، وكل ما ينتفي عند انتفاء غيره فهو محتاج إليه في استمراره، فالقول باستقراره يوجب احتياجه في استمراره وهو غنى بالنص الثاني: قوله تعالى: {كُلُّ شيء هَالكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] فالعرش يهلك وكذلك كل مكان فلا يبقى وهو يبقى، فاذن لا يكون في ذلك الوقت في مكان، فجاز عليه أن لا يكون في مكان، وما جاز له من الصفات وجب له فيجب أن لا يكون في مكان الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] ووجه التمسك به هو أن على إذا استعمل في المكان يفهم كونه عليه بالذات كقولنا فلان على السطح وكلمة مع إذا استعملت في متمكنين يفهم منها اقترانهما بالذات كقولنا زيد مع عمرو إذا استعمل هذا فإن كان الله في مكان ونحن متمكنون، فقوله: {إنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40] وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} كان ينبغي أن يكون للاقتران وليس كذلك، فإن قيل كلمة مع تستعمل لكون ميله إليه وعلمه معه أو نصرته يقال الملك الفلاني مع الملك الفلاني، أي بالإعانة والنصر، فنقول كلمة على تستعمل لكون حكمه على الغير، يقول القائل لولا فلان على فلان لأشرف في الهلاك ولأشرف على الهلاك، وكذلك يقال لولا فلان على أملاك فلان أو على أرضه لما حصل له شيء منها ولا أكل حاصلها بمعنى الإشراف والنظر، فكيف لا نقول في استوى على العرش إنه استوى عليه بحكمه كما نقول هو معناه بعلمه الرابع: قوله تعالى: {لاَّ تُدْركُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْركُ الأبصار} [الأنعام: 103] ولو كان في مكان لأحاط به المكان وحينئذٍ فإما أن يرى وإما أن لا يرى، لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق لأن القول بأنه في مكان ولا يرى باطل بالإجماع، وإن كان يرى فيرى في مكان أحاط به فتدركه الأبصار.وأما إذا لم يكن في مكان فسواء يرى أو لا يرى لا يلزم أن تدركه الأبصار.أما إذا لم ير فظاهر.وأما إذا رؤي فلأن البصر لا يحيط به فلا يدركه.وإنما قلنا إن البصر لا يحيط به لأن كل ما أحاط به البصر فله مكان يكون فيه وقد فرضنا عدم المكان، ولو تدبر الإنسان القرآن لوجده مملوءًا من عدم جواز كونه في مكان، كيف وهذا الذي يتمسك به هذا القائل يدل على أنه ليس على العرش بمعنى كونه في المكان، وذلك لأن كلمة ثم للتراخي فلو كان عليه بمعنى المكان لكان قد حصل عليه بعد ما لم يكن عليه فقبله إما أن يكون في مكان أو لا يكون، فإن كان يلزم محالان أحدهما: كون المكان أزليًا، ثم إن هذا القائل يدعى مضادة الفلسفي فيصير فلسفيًا يقول بقدم سماء من السموات والثاني: جواز الحركة والانتقال على الله تعالى وهو يفضي إلى حدوث الباري أو يبطل دلائل حدوث الأجسام، وإن لم يكن مكان وما حصل في مكان يحيل العقل وجوده بلا مكان، ولو جاز لما أمكن أن يقال بأن الجسم لو كان أزليًا، فإما أن يكون في الأزل ساكنًا أو متحركًا لأنهما فرعا الحصول في مكان، وإذا كان كذلك فيلزمه القول بحدوث الله أو عدم القول بحدوث العالم، لأنه إن سلم أنه قبل المكان لا يكون فهو القول بحدوث الله تعالى وإن لم يسلم فيجوز أن يكون الجسم في الأزل لم يكن في مكان ثم حصل في مكان فلا يتم دليله في حدوث العالم، فيلزمه أن لا يقول بحدوثه، ثم إن هذا القائل يقول إنك تشبه الله بالمعدوم فإنه ليس في مكان ولا يعلم أنه جعله معدومًا حيث أحوجه إلى مكان، وكل محتاج نظرًا إلى عدم ما يحتاج إليه معدوم ولو كتبنا ما فيها لطال الكلام.ثم قال تعالى: {مَا لَكُمْ مّن دُونه من وَليّ وَلاَ شَفيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} لما ذكر أن الله خالق السموات والأرض، قال بعضهم نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات، وهذه الأصنام صور الكواكب منها نصرتنا وقوتنا، وقال آخرون هذه صور الملائكة عند الله هم شفعاؤنا فقال الله تعالى لا إله غير الله، ولا نصرة من غير الله ولا شفاعة إلا بإذن الله فعبادتكم لهم لهذه الأصنام باطلة ضائعة لا هم خالقوكم ولا ناصروكم ولا شفعاؤكم، ثم قال تعالى: {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض وخلق هذه الأجسام العظام لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى تنصركم والملك العظيم لا يكون عنده لهذه الأشياء الحقيرة احترام وعظمة حتى تكون لها شفاعة.{يُدَبّرُ الْأَمْرَ منَ السَّمَاء إلَى الْأَرْض ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْه في يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ (5)}.لما بين الله تعالى الخلق بين الأمر كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] والعظمة تتبين بهما فإن من يملك مماليك كثيرين عظماء تكون له عظمة، ثم إذا كان أمره نافذًا فيهم يزداد في أعين الخلق، وإن لم يكن له نفاذ أمر ينقص من عظمته، وقوله تعالى: {ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْه} معناه، والله أعلم أن أمره ينزل من السماء على عباده وتعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر، فإن العمل أثر الأمر.وقوله تعالى: {فى يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} فيه وجوه أحدها: أن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو في يوم فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة فينزل في مسيرة خمسمائة سنة، ويعرج في مسيرة خمسمائة سنة، فهو مقدار ألف سنة ثانيها: هو أن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر، وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة فقوله تعالى: {فى يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون شهر منه، وكم تكون سنة منه، وكم يكون دهر منه، وعلى هذا الوجه لا فرق بين هذا وبين قوله: {مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: 4] لأن تلك إذا كانت إشارة إلى دوام نفاذ الأمر، فسواء يعبر بالألف أو بالخمسين ألفًا لا يتفاوت إلا أن المبالغة تكون في الخمسين أكثر وتبين فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى.وفي هذه لطيفة وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق، وأشار إلى عظمة الملك، وذكر في هذه الآية عالم الأرواح والأمر بقوله: {يُدَبّرُ الأمر} والروح من عالم الأمر كما قال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَن الروح قُل الروح منْ أَمْر رَبّي} [الإسراء: 85] وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان والمراد دوام البقاء كما يقال في العرف طال زمان فلان والزمان لا يطول، وإنما الواقع في الزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة فيطول ذلك فيأخذ أزمنة كثيرة، فأشار هناك إلى عظمة الملك بالمكان وأشار إلى دوامه هاهنا بالزمان فالمكان من خلقه وملكه والزمان بحكمه وأمره.واعلم أن ظاهر قوله: {يُدَبّرُ الأمر} في يوم يقتضي أن يكون أمره في يوم واليوم له ابتداء وانتهاء فيكون أمره في زمان حادث فيكون حادثًا وبعض من يقول بأن الله على العرش استوى يقول بأن أمره قديم حتى الحروف، وكلمة كن فكيف فهم من كلمة على كونه في مكان، ولم يفهم من كلمة في كون أمره في زمان. اهـ.
وليس يريد يومين مخصوصين وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم. اهـ.
|